حرب الهواتف الذكية
2018
كل بضع ثوانٍ، يضيء هاتفي الآيفون معلناً وصول رسائل جديدة واردة من مجموعة اشتركت فيها على واتس آب، تربط الأطباء الموجودين في الغوطة الشرقية - وهي إحدى ضواحي دمشق - بالصحفيين في العالم الخارجي. تصل أخبار القصف الحكومي الروسي والسوري في نفس لحظة حدوثها تقريباً: "قبل ثلاث ساعات في الغوطة تعقبت طائرة روسية سيارات الإسعاف، ثم قصفتها هي والمستشفيات". دكتور حمزة: عالجت حتى الآن 29 حالة غالبيتهم من الأطفال. الصور المرئية عليها تعليقات كتابية باللغتين العربية والإنجليزية: "صور الملاجئ التي حفرها السكان المحليون تحت منازلهم". يستخدم الصحفيون، بمن فيهم مراسلو نيويورك تايمز وواشنطن بوست وصحف دولية أخرى، المجموعة للاطلاع على عدد الضحايا والتحقق من مواقع الهجمات، بينما تطلب وسائل الإعلام المرئية إجراء مقابلات عبر سكايب من داخل منطقة الحرب.
تجري غربلة دقيقة للشهادات والمعطيات ومقاطع الفيديو والصور التي تنقلها وسائل التواصل الاجتماعي، لمراجعتها ومقارنتها مع الدعاية الحكومية وصور الأقمار الصناعية وأية مصادر أخرى متاحة، إذ يُعتبر هذا جزءاً حساساً من تغطية النزاعات في القرن الحادي والعشرين. يبدو الأمر بعيداً جداً عما كان يفعله وليام هوارد راسل، الذي يُعتبر أول مراسل حرب في العصر الحديث، والذي اشتهر بتغطية هجوم اللواء الخفيف، واصفاً سلاح الفرسان البريطاني في القرم بأنه "يتألق في شمس الصباح بكل ما للحرب من فخر وروعة".
اعتبر راسل نفسه "الأب البائس لقبيلة مشؤومة"، بينما لا يشعر المراسلون الملتصقون بأجهزة الكمبيوتر في بيروت أو اسطنبول أو لندن بأنهم مشؤومين فعلاً. في ليبيا عام 2011، كان يمكنك أن تقود سيارتك إلى ساحة الحرب في الصباح ثم تعود إلى فندقك في بنغازي ليلاً بسبب احتدام القتال، مستخدماً الطريق الساحلي الرئيسي بكل سهولة. في العراق عام 2003، كان يمكنك الانخراط مع القوات الغربية الغازية أو البقاء في بغداد، حيث شنَّ صدام حسين مقاومته المنكوبة. كان بإمكانك أن تكون شاهد عيان دائم على شيء ما، بينما تعتمد على روايات الآخرين لملء الصورة الأكبر. قد ينظر المرء إلى الوراء بمزيد من الحنين إلى آخر يوم من صيف عام 1939، عندما استعارت الشابة كلير هولينغورث، في أسبوعها الأول كمراسلة لصحيفة ديلي تلغراف، سيارة القنصل البريطاني في بلدة كاتوفيتشي البولندية، وشقت طريقها بمحاذاة نقطة الحراسة على الحدود الألمانية، وصدف أنها كانت تقود السيارة على الجانب الصحيح من الطريق عندما رفعت عاصفة من الرياح ستائر الخيش التي كان الألمان قد ثبتوها، لتكتشف وجود عشرة فرق بانزر جاهزة للتوغل عبر الحدود.
سوريا مختلفة. فقد تعلمت الحكومة من تجربة سريلانكا، حيث حظر النظام السريلانكي عام 2009 دخول الصحفيين وعمال الإغاثة، حتى يتمكن من فرض حل عسكري للحرب الطويلة مع نمور التاميل في شمال البلاد دون اعتبار لحياة المدنيين. تمنح سوريا التأشيرات لقلة مختارة وتراقب تحركاتهم. وقد حاولت مؤخراً أن تجعل الصحفيين الزائرين يوقعون على استمارة تتضمن الإقرار التالي: "لوزارة الإعلام الحق في اتخاذ الإجراءات القانونية ضدي، إذا تم نشر أكاذيب أو إذا كنت قد ساهمت في الإثارة أو التحريض على الفتنة الطائفية، ولديها الحق في ملاحقتي في بلدي أو حيث أعيش".
في البداية، استخدم المراسلون مهربين لنقلهم إلى مناطق سيطرة المعارضة، لكن القصف المتواصل من قبل النظام السوري وحلفائه، ناهيك عن القسوة الانتقامية لداعش، جعلا تغطية الحرب أمراً محفوفاً بالمخاطر. أدرجت لجنة حماية الصحفيين أسماء 115 صحفياً قتلوا في سوريا منذ عام 2011، أبرزهم مراسلة صحيفة صنداي تايمز اللندنية ماري كولفين، التي قُتلت بقذيفة هاون حكومية استهدفت المركز الإعلامي للثوار حيث كانت تقيم في بابا عمرو، محافظة حمص في شباط 2012. في العام نفسه، اختُطف الصحفي الأميركي جيمس فولي من قبل داعش، ثم ستيفن سوتلوف عام 2013، وكلاهما قتلا في وقت لاحق. بعد ذلك، اكتفى معظم الصحفيين الأجانب بالإقامة على الحدود التركية لاستجواب اللاجئين والمقاتلين والمهربين. وبعد القضاء على داعش العام الماضي - أصبحوا يقومون بزيارات خاطفة بين الحين والآخر للمناطق التي يسيطر عليها الثوار.
يوجد سوريون أكثر من الأجانب على قائمة لجنة حماية الصحفيين، لكن أسماءهم ليست معروفة بنفس القدر. هناك فرق في المعاملة بين المراسل الحربي المحلي المغمور والمراسل الأجنبي المشهور، الناجي، وبطل المعارك السابقة، علماً بأن الاثنين يعرضان حياتهما للخطر مقابل الحصول على نفس القصة، وهذا يخلق توتراً متزايداً في تقارير الحرب الحديثة. ألمحت رانيا أبو زيد، وهي مراسلة لبنانية - أسترالية مستقلة تكتب في صحيفة النيويوركر وغيرها من المطبوعات، إلى هذا في مقدمة كتابها الممتاز "لا عودة إلى الوراء: الحياة والخسارة والأمل في سورية زمن الحرب". وفيه تقول "هذا الكتاب ليس مجلة حرب لمراسل آخر". ذهبت إلى سوريا لأرى وأتحرى وأستمع - لا لأتحدث نيابةً عن أشخاص قادرين أن يعبروا عن أنفسهم، هم يملكون صوتاً، إنها ليست قصتي، إنها قصتهم." قد يؤدي ذلك إلى منع دخول مراسلي التلفزيون الذين يرتدون السترات الواقية من الرصاص (التي تحمل عبارة: صحافة) أولئك الذين يعتبرون أسبوعهم في منطقة الحرب ذا أهمية خاصة. وأضافت: "لقد قمت بنفسي بالتدقيق والترجمة والنسخ والترتيبات اللوجستية والأمن والبحث والتأكد من الحقائق". ربما تكون النتيجة هي الرواية الصحفية الأكثر ذكاءً وفهماً لطبيعة تلك الحرب حتى الآن، إذ تلقي الضوء على القصص الفردية دون إغفال الوضع السياسي والتاريخي الأوسع.
لا يمكن لمراسل غربي أبيض أن يؤلف هذا الكتاب، لكن ورغم أن هوية أبو زيد هي جزء لا يتجزأ من أسلوبها الصحفي، إلا أنه ينبغي عدم الاستهانة بمهاراتها كمراسلة وكاتبة. على مدار سبع سنوات من الصراع، تابعت عشرات السوريين وجمعت قصصهم مثل مكعبات الليغو، كل قطعة من القصة تؤدي للثانية، حتى أصبح شكل الهيكل واضحاً. الأسلوب الذي اتبعته كان الاختلاط بالناس، والمشاهدة والاستماع بهدوء، وقضاء الكثير من الوقت معهم حتى كادوا ينسون أنها موجودة. وقد ساعدها كونها امرأة، إذ لا تُعتبر المرأة تهديداً في الغالب. إن وجودها في مكان الحدث يوثق القصة - لابد أنها كانت هناك لمراقبة الحياة المنزلية لمحمد، وهو مقاتل مع جماعة متمردة متحالفة مع القاعدة، وزوجته سارة:
عاد زوجها إلى المنزل بعد الصلاة وتوجه إلى الحمام. "ناوليني مقلِّم الأظافر!" صرخ من الحمام.
"صرخت سارة: أين هو؟"
أجاب: "بجانب القنابل اليدوية". مدت يدها إلى الخزانة المصنوعة من خشب بلون الجوز والزجاج وأمسكت بمقلّم الأظافر، ثم سحبت زجاجة مرطب البشرة ووضعت قليلاً منها على يديها.
قالت "انظر إلى يدي! متى كانت أظافري هكذا؟ أشعر أنني على الجبهة أنا أيضاً. يجب أن أفعل كل شيء هنا، كل شيء بيدي- غسيل الملابس والأطباق. كنت أستخدم أقنعة وجه من الخيار، وآخذ قيلولة بعد الظهر، وأمشط شعري، وأستخدم مساحيق التجميل. لقد تغيرت حياتي كلها".
هذه حرب لكنها ليست كالحروب التي نعرفها عموماً. في مناسبة أخرى، انضمت أبو زيد إلى عائلة أثناء تهريبها عبر الحدود إلى تركيا، ورغم أننا نعلم أنها كانت هناك مع العائلة ("نحن السبعة كنا محشورين في سيارة المهرِّب") إلا أنها لم تحاول أبداً الإشارة إلى الخطر الذي واجهته هي. ركزت الأحداث الدرامية كلياً على العائلة، وخاصة على إحدى بناتها وهي رؤى، التي تابعتها أبو زيد طوال الكتاب، ورصدت نموها وتحولها من فتاة صغيرة معجبة جداً ببطولة والدها الذي انضم إلى الثوار في مسقط رأسهم سراقب، إلى مراهقة بدأت في تشكك في اختيارات والديها.
اضطرت أبو زيد للإشارة إلى تواجدها في مكان الحدث، وهذا أمر نادر الحدوث في الكتاب، عندما طلب منها عمال الإغاثة السوريون على الحدود التركية الترجمة في اجتماع بين اثنين من "الدبلوماسيين" البريطانيين ومحمد، وهو أحد الثوار المرتبطين بالقاعدة، والذي انتحل صفة لاجئ. يمكن لأبو زيد تخمين من هم الدبلوماسيين حقاً، وهم يحاولون مقايضة المعلومات الاستخبارية بالطعام والخيام، لكنهم لا يعرفون أنها صحفية. لقد أصبحت للحظة جزءاً من القصة، شخصاً آخر له هوية مفترضة، في صراع قد يكون فيه الخداع والتمويه هما مفتاح البقاء.
وفي حين كانت أبو زيد شخصاً خارجياً استطاع أن يصبح شخصاً من الداخل، فإن مروان هشام هو أحد الأشخاص الذي كان متواجداً داخل منطقة الصراع، والذي عرف كيف يصدِّر قصته ويسردها بطريقة يفهمها الغرباء. كان مدرساً للغة الإنجليزية في الرقة عندما سيطر داعش على المدينة، بدأ يكتب على تويتر باللغة الإنجليزية، علماً بأن مروان هشام ليس اسمه الحقيقي بالطبع. كانت مهمة خطيرة، لكنه أفلت من العقاب لفترة. "إخوة السلاح: مذكرات الثورة السورية" هو نتاج تعاونه مع الفنانة مولي كرابابل التي التقى بها على تويتر عندما كان في الرقة وكانت هي في نيويورك. أرسل لها صوراً تم التقاطها بهاتف ذكي استعاره من صديق، وهي كانت تحوِّل هذه الصور إلى لوحات ورسوم.
نُشرت أعمالهما الأولية في مجلة فانيتي فير. لقد كانت، على حد تعبير هشام "جريمة فنية" من المحتمل أن يُعدم بسببها لو اكتشفها تنظيم الدولة الإسلامية. جسد يتدلى من عمود نور، طفل صغير يحمل بندقية ضخمة، أناس يركضون في شارع مليء بالركام - هذه الصور المرسومة بشكلٍ جميل كانت مؤلمة. استخدمت كرابابل ألواناً نابضة بالحياة، وأحياناً ألواناً شاحبة مثل مقالات المجلات الأصلية، لكن الرسوم التوضيحية بالأبيض والأسود في الكتاب، التي تم تلطيخها وإضافة البقع إليها بعناية، إنما تدعو القارئ إلى مزيد من التفكير، دون أن ننسى رسم الغلاف الذي يمثل عازف كمان يعزف على آلة يُفترض أنها موسيقية، لكن عند التمعن فيها يتضح أنها كلاشنيكوف.
هشام، الذي فُتن بكرة القدم الأوروبية والأدب الأوروبي، بعد التحاقه بمدرسة دينية في قرية بالقرب من حلب، هو المحاور المثالي للقراء الغربيين، لكن أسباب انتفاضه هو وأصدقاؤه ضد نظام بشار الأسد القمعي كانت بعيدة عن الأسباب التقليدية:
كنا أقلية مختلفة في الرقة. القيم التي حملناها جعلتنا - في نظر جيراننا- عملاء خطرين وغير إسلاميين تابعين للغرب.
القاعدة الشعبية
الديمقراطية
الحقوق الانتخابية
احترام صندوق الاقتراع، كأساس للتمثيل والشرعية
هذه الكلمات هي بمنتهى الغرابة بالنسبة لمعظم السوريين؟ هل يمكن أن تكون هذه القيم، التي يُزعم أنها عالمية، القيم التي نادينا بها أنا وأصدقائي، بين الشتائم والغاز الخانق لدى ضباط الأمن، ليست عالمية حقاً؟ ربما تكون أعرافاً ضيقة الأفق، يتم التكهن بها في حرم الجامعات في العواصم الأوروبية. ربما هي واهية ووهمية كالأشباح.
قد ينظر القارئ الغربي إلى هشام كبطل لتمسكه بمثل هذه المعتقدات، لكنه يعرف أن لا أحد يبقى نقياً في مواجهة الحرب. أصدقاؤه المقربون لم يصبحوا ثواراً فقط، بل إسلاميين، يسعون للوصول إلى طريقة ما لفهم الانحطاط من حولهم. الجميع تنازل من أجل البقاء، بما في ذلك هو. مكّنه العمل في مقهى إنترنت في الرقة من نشر الأخبار، لكن مقاتلي داعش كانوا يستخدمون نفس المقهى. عندما أحضر الجهاديون امرأتين أيزيديتين مذعورتين كعبدتين، أدرك أنه - في نظرهما - مثله مثل جميع الرجال الآخرين: "شعرت بالذنب يثقل كاهلي بسبب عملي في المقهى. وسأشعر بهذا الذنب دائماً". عندما فرَّ عبر الحدود إلى تركيا، ساعد زوجين لاجئين في حمل حقائبهما الثقيلة، لكن عندما أمسك بهما حرس الحدود وأعادوهما، فقد كل أثر لهما قبل أن يقوم بمحاولة أخرى للعبور. يكتب هشام: "الحرب قاسية على الأشخاص الرحماء الضعفاء". "لقد فعلت شيئاً فظيعاً، وهو واحد من أشياء فظيعة كثيرة فعلتها في حياتي. لقد تركتهما مع حقائبهما ومشيت".
اندلعت الحرب في سوريا في وقت كان أول رد فعل للكثير من الأشخاص الذين تواجههم أزمة ما - سواء كانت إطلاق نار في مدرسة في الولايات المتحدة أو مظاهرة في دمشق - هو إخراج هواتفهم والبدء بالتصوير. في عام 2011، كان هشام وأصدقاؤه في شمال سوريا من أوائل الأشخاص الذين نبهوا العالم للانتفاضة السورية، من خلال تصوير الاحتجاجات ضد النظام وتحميل مقاطع الفيديو على الإنترنت. كتبت أبو زيد عن شاب في الرستن، وهي بلدة تقع في وسط الطريق بين حلب ودمشق، قام بتصوير ما يجري كرد فعل أولي. إن فورية مثل هذه اللقطات لها جاذبية خاصة، لكنها في سوريا كانت أحياناً النافذة الوحيدة للصحفيين الأجانب للاطلاع على ما يحدث.
أصبح توثيق الفيديو الموجود تخصصاً صحفياً في حد ذاته. كتب كريستيان تريبيرت وهادي الخطيب في فصل "شرلوك الرقمي" في كتاب الصحافة في أوقات الحرب: "هناك ساعات من لقطات الفيديو على الإنترنت تصور النزاع السوري، أكثر من الوقت الفعلي المنقضي منذ بدء الحرب". وهما يشرحان تقنيات مثل البحث العكسي عن الصور، والتي من خلالها تستطيع التحقق من أن اللقطة التي يُقال إنها أُخذت في الغوطة الشرقية اليوم، على سبيل المثال، ليست مأخوذة في الواقع من الفلوجة في العام الماضي.
إن استخدام هذه الأدوات ذاتها من قبل منظمات حقوق الإنسان والصحفيين هو في تزايدٍ مستمر. طورت منظمة العفو الدولية برنامج عارض البيانات على يوتيوب، الذي يسمح لك بالعثور على التاريخ والوقت المحددين لتحميل مقطع فيديو وإجراء بحث عكسي عن الصور الثابتة منه. طور آخرون طرق تحديد الموقع الجغرافي. في غرفة الأخبار بلندن حيث أعمل، يقضي صحفي ناطق بالعربية أيامه في تدقيق هذه المواد والتحقق من صحتها وتنظيم النتائج للتلفزيون والإنترنت. يجد المواجز المقدَّمة من قبل الجنود السوريين، ويتواصل مع عشرات النشطاء والثوار، ويطور مصادر موثوقة بعيدة المدى.
لا يشكك الصحفيون الذين تمت مقابلتهم في كتاب "الصحافة في زمن الحرب" بالأساليب التقليدية: مثل كونك شاهد عيان، وتطوير المصادر، والاستماع إلى أكبر عدد ممكن من الآراء، و"محاولة العثور على الحقيقة في عاصفة من الدعاية السياسية"، كما قالت كولفين ذات مرة. ومع ذلك، يتحدى البعض الافتراضات الغربية حول "التوازن". تصف زينة عبدالرحيم وهي صحفية سورية كانت تعيش في حلب، كيف أصيبت هي وآخرون بخيبة أمل لأن تقاريرهم عن قسوة نظام الأسد لم تثر استجابة دولية تُذكر. كتبت "النشطاء الإعلاميون" السوريون، كما يسمون أنفسهم، "لا يُعتبرون صحفيين حقيقيين من قبل معظم وسائل الإعلام الدولية، إن لم يكن كلها".
قيل لنا هذا إنهم ليسوا "موضوعيين" أو "حياديين". ماذا تعني كلمة "موضوعي" في السياق السوري؟ هل تعني "الموضوعية" في تغطية أخبار سوريا إعطاء صوت لمجرم حرب ودعايته السياسية، والسماح للنظام بتبرير قصفه للمناطق المدنية والمدارس والمستشفيات؟
يعلم معظم مراسلي وسائل الإعلام الغربية الذين يغطون أخبار سوريا أن نظام الأسد يرتكب فظائع مروعة. لكن مع ذلك، يميل "النشطاء الإعلاميون" السوريون إلى إظهار الجزء من القصة الذي يدعم قضيتهم فقط. لقطات القصف والمعاناة ليست مزيفة، كما يزعم دعاة النظام، لكن النشطاء يعرفون أنهم إذا أرادوا تعاطفاً دولياً- رغم أنهم فقدوا الأمل بتدخلٍ دولي- فمن الأفضل التركيز على المدنيين حصراً، وخاصة الأطفال. والأهم هو أن المقاتلين الثوار، سواء أكانوا إسلاميين أم علمانيين، لا يحبون التصوير إلا بشروطهم الخاصة، وهم من يملك السلاح. تظهر مقاطع الفيديو، التي تم تحميلها، ثواراً من جميع المشارب يطلقون النار ويكسبون المعارك، لا تظهرهم المقاطع وهم يتشاجرون فيما بينهم أو يفقدون الأراضي. قد يكون ما نراه هو الحقيقة، لكنها ليست الحقيقة الكاملة، ولهذا السبب لا يزال العديد من القراء والمشاهدين الغربيين يلجأون إلى زيارة المراسلين الحربيين للحصول على ما يأملون أن يكون نسخة حقيقية من الأحداث.
في أحسن الأحوال، يكون لدى المراسلين الذين يتواجدون في تلك الأماكن بعض الشكوك والحيادية، ويمكنهم تقديم فهم لكيفية مقارنة الصراع بالحروب السابقة وتناسبه مع الجغرافيا السياسية في ذلك الوقت. لسوء الحظ، ووفقاً لدراسة لندسي بالمر الأكاديمية التي حملت عنوان "التحول إلى القصة: مراسلو الحرب منذ 11 سبتمبر"، فقد أصبح المراسل أكثر فأكثر، وليس الحرب، هو محور الاهتمام. وكتبت: "تميل المؤسسات الإخبارية التي تعمل باللغة الإنجليزية إلى وضع مراسليها الغربيين البيض بقوة داخل الإطار، وإظهارهم كأبطال ميلودراما". سمحت الصحف الأميركية مؤخراً لمراسليها بقول "رأيت" بدلاً من "رأى هذا المراسل" أو "رأى شاهد عيان"، لكن إضفاء الطابع الشخصي على التقارير التلفزيونية هو سمة سائدة على طرفيّ المحيط الأطلسي.
يُعتبر الفصل الذي كتبته بالمر عن بوب وودروف، وهو مراسل ومذيع لقناة أي بي سي نيوز، أصيب أثناء التحاقه بالقوات الأميركية في العراق عام 2006، مثالاً على ذلك. ترى بالمر قوى سياسية سلبية تعمل - وبالنسبة لها فإن الفردية هي دائماً "ليبرالية جديدة"، وهذه ليست مجاملة. وهي تنتقد بشدة التغطية التي تدفع العراقيين إلى اقتطاع أجزاء من دراماهم الخاصة وتنتقد أيضاً "اصطفاف وودروف الصريح مع الجنود الأميركيين الذين يغطي أفعالهم في الميدان". إذا وضعنا اللغة الأكاديمية جانباً - يمكن القول إن الصحفيين ينقلون القصص، ولا "يسردوها". تضيء بالمر على الطريقة التي يتم بها تشجيع القراء والجمهور الغربي على التعاطف مع المراسلين الحربيين وإظهارهم كأبطال أو ضحايا أو شهداء.
ورغم أن المتلازمة تبدو أقل وضوحاً عندما يتعلق الأمر بالصحفيين الذين ينشرون مقالاتهم، إلا أن مقتل ماري كولفين في بابا عمرو حظي باهتمام أكبر بكثير من مقتل رامي السيد، مصور الفيديو السوري، الذي قُتل في نفس المكان في اليوم السابق. من السهل أن نفهم أن كولفين هي مراسلة مشهورة عالمياً، اشتهرت بالرقعة التي تغطي عينها، والتي وضعتها بعد فقدان إحدى عينيها بسبب شظية قنبلة أطلقتها حكومة سريلانكا، بينما لم يمارس السيد التصوير إلا قبل بضعة أشهر فقط، وكان ناشطاً وصحفياً بنفس القدر. ناشط كصحفي. لكن حسب بالمر، كانت مقاطع الفيديو الخاصة بالسيد "مهمة جداً في التغطية الإخبارية الرسمية باللغة الإنجليزية لنقل النزاع في حمص في عاميّ 2011-2012"، وتشير وفاة الاثنين إلى التسلسل الهرمي الذي يعرفه من يعمل في مناطق الحرب.
توضح بالمر أن الصحفيين غير الغربيين، وكثير منهم يعملون لحسابهم الخاص، غالباً ما يتم التقليل من قيمتهم الحقيقية، ويتقاضون أجوراً قليلة، ويتلقون تدريباً ومعدات لا توفر لهم الأمان الكافي. غالباً ما يشعر الوسطاء والمراسلون المحليون أن خبراتهم تُستغل من أجل مجد المراسلين الغربيين الذين يسافرون بعد ذلك، تاركين المراسل المحلي يواجه غضب السلطات، إذا اعتبر التقرير ضاراً أو غير دقيق. الصحفيون الذين يدخلون ويخرجون يعرفون حتماً أقل من الصحفيين المحليين، لكن المعرفة ليست هي المعيار الوحيد للمحرر. تقول الحكمة التقليدية السائدة بين المدراء التنفيذيين في التلفزيون إن على المراسل أن يُنشئ علاقة مع الجمهور، ومن ثم فإن النجوم مثل وودروف الذين يتنقلون من صراع إلى صراع يظهرون في جميع أنحاء العالم. لدى مشاهدي التلفزيون المواظبين آراء قوية بشأن المراسلين الذين يثقون بهم، واستبدال هؤلاء بآخرين ممن قد يتحدثون العربية أو يعرفون المزيد عن الصراع الحالي لن يقنعهم بشكل تلقائي. وقراء الصحف المواظبين يشعرون بالمثل.
لكن هذا ربما يتغير، إذ يبدو أن المشاهدين الأصغر سناً أقل اهتماماً بالوجه، أو حتى بالصوت، لأنهم يشاهدون الأخبار على أجهزتهم، غالباً مع الترجمة بدلاً من التعليق الصوتي. عندما يتعلق الأمر بالصراع، فإن الاتجاه هو نحو مقاطع الفيديو الخام المثيرة، التي يصورها نشطاء وصحفيون محليون، تظهر فيها القنابل وهي تنفجر ويتم سحب الأطفال من تحت الأنقاض، وغالباً ما يصور رجال الإنقاذ بكاميرات مثبتة على خوذهم. بشكل عام، لا يبدو أن المُشاهد على الإنترنت يمانع في أن يرى هذه الأحداث دون أن يتوسطها مراسل فوري - عندما تتنافس قصتك مع ألعاب الفيديو و Netflix، يكون الفيديو هو الرابح وليس الشرح الرصين. إن عصر مراسل الحرب النجم الذي يمكنه الوقوف أمام الكاميرا والتحدث بطلاقة بينما تتفجر الدنيا من حوله، اقترب من نهايته.
مع تزايد الميل للاقتصاد في المطبوعات والقنوات عن طريق تقليص أعداد المكاتب الأجنبية، من المغري أن نرى الأنماط الرقمية في ارسال التقارير تُستخدم كبديل لإرسال المراسلين الأجانب. لا يمكن لأي مراسل أن يتخلى عن واتس آب ويوتيوب وعدد لا يحصى من الطرق الحديثة لمواكبة القصة التي تحدث خارج نطاق رؤيتنا، لكن "التواجد هناك" يبقى أمراً جوهرياً. وقد أخبر مراسلون عرب أميركيون بالمر أنهم يستفيدون في عملهم من ميزة كبيرة، فهم يستطيعون التأكيد على الجزء من هويتهم الثقافية واللغوية الذي يساعدهم في الحصول على القصة، من التعبير عن التعاطف ("أنا عربي مثلك - أنا أفهمك") إلى التظاهر بعدم فهم اللغة على أمل أن يتحدث الناس مع بعضهم البعض بحرية أكبر، معتقدين أن المراسل الأبله ليس لديه أدنى فكرة عما يجري. إنهم يملكون الفهم الثقافي المناسب للتواصل مع الجمهور الغربي.
مستقبل مراسلي الحرب إذن أصبح مشتركاً- سورياً - أميركياً، لبنانياً - بريطانياً، إيرانياً- فرنسياً، نيجيرياً، كندياً وربما أكثر إنكاراً للذات. من خلال تأريخهما الشخصي للحرب، الذي تم تعزيزه بواسطة الرسوم المفعمة بالذكريات، والتي تم تشكيلها في البداية من خلال تويتر، أظهر هشام وكرابابل إمكانيات الأساليب الجديدة في رواية القصص. تتحدث شجاعة أبو زيد المغموطة وقدرتها على الانصهار في الخلفية، عن القوة الغامرة لتقارير شهود العيان، مما يبرز تجربة الأشخاص الذين تلتقي بهم وتكتب عنهم بتواضع.
كما قالت هولينغورث ذات مرة، "أحب رائحة النسيم، لكن لا يمكنك أن تستنشق رائحة النسيم على جهاز الكمبيوتر".
___طُبع أول مرة في مراجعة نيويورك للكتب (The New York Review of Books) بعددها الصادر في 19 أبريل 2018