حين نتخيّل "المستقبل"، كثيرًا ما تتبادر إلى أذهاننا تلقائياً تلك الصور النمطية المألوفة: آلاتٌ لامعة، وواجهاتٌ معدنية مصقولة، ومشاهد مدن متلألئة بأضواء النيون. بيد أن السؤال الأعمق المطروح هو: مستقبلُ مَن هذا الذي نراه؟ ومن الذي يملك الحقّ في رسم ملامحه؟
يحمل معرضنا لربيع 2026، عنوان "ما بين البينين؟" ويطرح هذه الأسئلة متحدّيًا السرديات المهيمنة والسائدة التي طالما صاغت تصوّراتنا حول التقدّم والتطوّر والحداثة، بل ومفهوم الغد في حد ذاته، لا سيما بالنسبة لأولئك الذين يُقال لهم إن مستقبلهم يُبنى لأجلهم، بدلًا من أن يُبنى بأيديهم.
ينبثق المعرض من مفهوم " مستقبلية الخليج" بوصفها نقطة انطلاق واستدلال، وهو مصطلح وُضع لوصف التجربة المتفرّدة للتحوّل السريع الذي شهدته شبه الجزيرة العربية، حيث تلتقي الحداثة المفرطة بتصادم الثقافات البصرية لتولّد إحساسًا نادر الملمح بالوجود بين أزمنةٍ متعددة ومتداخلة. فهي تجربة تصطدم فيها الأزمنة ببعضها البعض في دوّامةٍ مذهلة: ماضٍ يلتقي بمستقبل في تقاطع مربك، ومراكز تسوّق فاخرة بجوار مشاهد صحراوية، وتقاليد ضاربة في القدم تتعايش مع تكنولوجيا العصر المتقدمة. ولكن في أحيان كثيرة، يُختزل هذا التنوّع المعقّد في مجرد رموز جمالية أو في تصوّرات تسويقية جاهزة. يأتي معرض " ما بين البينين؟" ليتجاوز هذا الاختزال وتلك القراءات السطحية، مفسحًا المجال أمام أصوات طالما وُضعت على الهامش في النقاشات حول مستقبل الخليج، ليطرح سؤالًا جوهريًا: ما الذي يغيب عن ادراكنا حين نخطئ في الاعتقاد بأن الثقافات المهيمنة هي مرادف الحداثة والتقدّم.
يضم المعرض أعمالًا فنية معارة، وإبداعات جديدة بتكليف خاص، إضافةً إلى محتوى رقمي لأكثر من 20 فنانًا وفنانةً من الخليج، جميعهم ممن يقفون على مفترق مواقع بينية متنوّعة، إذ لا يوجد هنا تعريف واحد وموحّد لمستقبلية الخليج؛ بل يدعوكم المعرض لاستكشاف الفضاءات القلقة وغير المحسومة الواقعة بين المفاهيم الثابتة والراسخة، في مسعى للكشف عن ما يضمحل ويتلاشى، وعما يتجمد ويتصلب، وعما يظل ثابتًا في الوقت الذي تنتقل فيه المجتمعات في غضون جيل واحد من البنى التقليدية إلى ثقافات الاستهلاك الرأسمالية.
يمثل الملح الأستعارة الرئيسية للمعرض، ليجسّد التناقض ذاته، فلطالما كان عبر التاريخ ضرورةً ومهلكةً في نفس الوقت، وكذلك يعتبر عامل حفظ لكنه أيضًا مسبِّب للتآكل، وعتيقُ الجذور لكنه ينتمى للحاضر. والخليج يشبهه في ثنائيته وحضوره المزدوج بين زمن وآخر، فهو يحتل هذه المواضع المتجاورة متأرجحًا بين الماضي والحاضر والمستقبل.
يبقى الملح عنصرًا ثابتًا من أعماق البحار التي غاص فيها غواصو اللؤلؤ بحثًا عن الكنوز، إلى المرتفعات حيث يتم زرع السحب، ومن المادة الحافظة التي أ أمَّنت سُبُل العيش التقليدية، إلى كونه ناتجاً عرضياً لتقنيات التحلية الحديثة، ومن ثروة طبيعية إلى معضلة تكنولوجية. وكمثل الخليج ذاته، يظل الملح في حالة من التحول الدائم إلا أنه في المقابل يحتفظ بجوهر طبيعته.
تشكّل طبقات الغلاف الجوي للأرض الإطار البصري للمعرض، بتدرّجها من مستويات الضغظ ودرجات الحرارة والتكوينات التي تفصل وتربط في آنٍ واحد لتخلق مساحة للتأمل في شبكةً من الفواصل والروابط. فمن التروبوسفير الكثيف حيث تتصادم ثقافة مراكز التسوق مع التجارة العالمية، وصولاً إلى الثرموسفير المليء بالأقمار الصناعية حيث تتقاطع الشبكات الرقمية مع طموحات الفضاء، لتكون كل طبقة من تلك الطبقات بمثابة نقطة ضغط في كيفية تصور و تشكيل المستقبل.
يدعوك المعرض لتجاوز الظاهر وبناء الراوبط والنظر فيما ما بين البينين، لاستكشاف عالم تتعايش فيه المتناقضات معًا: الصحاري والحواضر، الاصالة والتفكك، المحلي والعالمي، محولًا بذلك بصيرتك وتركيزك من السرديات الكبرى للرؤى الوطنية إلى تفاصيل القصص الهامشية، ومتأرجحًا بين الأطر الصارمة والهشة في ذات الوقت.
قد يتساءل المرء عن الرابط بين عناصر تبدو متباعدة مثل بلّورات الملح وطبقات الغلاف الجوي ومفهوم المستقبلية. غير أن خيطًا خيفًا هو ما يربطها جميعًا، ويكمن في كيفية تناولها لسؤال جوهري ألا وهو: لمَن فُرِض المستقبل سلفاً؟
يُقدّم هذا المعرض إطاراً نقدياً ولكن ليس فقط من أجل استيعاب مسار الخليج وتحولاته، بل أيضاً لتأمل ملامح مستقبلنا العالمي المشترك.
وفي هذا الفراغ، ذاك الحيّز البيني الكامن في "ما بين البينين" قد نكتشف ماضيه وما سيكون عليه، بل وكذلك ما يمكن له أن يصبح حين نوسع مداركنا حول ما قد تبدو عليه أشكال المستقبل الممكنة وهي تنبثق من نقاط انطلاق مختلفة.